لا أعلم أين أنا ... استيقظت صباحا لأجد نفسي في هذه الغرفة البيضاء .. ماذا حدث ليلة البارحة...؟؟ ... لم أكن في وعيي تماما .. تبا .. لا أذكر شيئا .... صور مبهمة ... وجوه غريبة .. أياد كثيرة كانت تقيدني ....
... لماذا أنا هنا ..؟ ماذا فعلت ..؟ من هؤلاء ..؟ ماذا يريدون ..؟ ..... لون أبيض في كل مكان ..... كم أكره اللون الأبيض ...
هل يريدون فدية ما .. نعم .. كما في الأفلام الغربية .... لا .. لا أظن هذا ..
.. فأنا لا أملك نقودا .. أنا رجل بسيط ... موظف لدى الحكومة .. وراتبي متواضع ... لا .. لا أعتقد بأنهم يريدون فدية ..
.. يريدون سرقة عضو من أعضاء جسدي .. نعم .. هذا صحيح ..
... فقد كثر أمثال تلك العصابات في الآونة الأخيرة .. نعم .. أنا متأكد ..
... أشعر بالجوع .. تبا لهم .. كيف يريدون عضوا من أعضائي وأنا
أموت من الجوع ..( قال عبارته هذه بصوت مرتفع وبحنق شديد ) .. يجب
أن أكون بصحة جيدة .. أيها السفلة .. ( أخذ يضرب الباب بعنف حتى
تهاوى أمامه من شدة التعب والإرهاق ) ... باب لعين أبيض ...
.. لا نوافذ .. لا أثاث .. لا شيء .... حتى الأضواء لونها أبيض ..
.. يا إلهي .. ماذا فعلت لكي يحدث لي هذا .. وأنا بالذات من دون الناس جميعا
..... لماذا أنا ...
... اشتقت إلى ابنتي الصغيرة .. زوجتي العزيزة .. كم تحملت معي هموم الحياة
ووقفت بجانبي حتى في أحلك الأوضاع ظلمة ... ليتني أراها لأشكرها ..
.. أريد أن أضم ابنتي إلى صدري وأستنشق عطر شعرها الطفولي البريء ..
... ( ألصق وجهه بالحائط ) .. لا شيء .. لا أصوات .. وكأنه القبر ..
... هل لأنني كاتب معروف .. نعم .. هذا هو السبب .. بالتأكيد ...
.. لقد عرفت الآن .. أنا في قبضة الحكومة ... نعم .. كتاباتي طالما أزعجتهم ..
يكرهون ما أكتب .. لأنني أكتب بصدق ... ولا أزيف الحقائق .. أجل ..
يجب أن أهرب من هنا .. ولكن كيف .. ( ينظر إلى السقف ) .. هناك فتحة للتهوية
... بعيدة بعض الشيء ... ولكن كيف سأصل إليها .. كيف ..
.. عندما عدت من الحرب .. أحببت الكتابة .. كتبت كل ما حدث هناك في أرض المعركة .. كتبت كل شيء وبالتفصيل .. التجاوزات .. المجازر .. قتل الأبرياء... اغتصاب النساء .. صواريخنا الغبية .. كل شيء... حاولوا إسكاتي ..
... لم أرضخ لهم ... فقاموا باختطافي ... يا لهم من جبناء ... جبناء .. ( قالها بغضب ) ..... لن أخافكم .. وسأبقى أكتب وأكتب ما يحلو لي ... فنحن في بلد الحريات ...
... ( جلس يبكي في زاوية من زوايا الغرفة البيضاء )...
... يجب أن أفعل شيئا ... سأحاول الصعود إلى فتحة التهوية تلك مستعينا
بالشقوق الظاهرة في الجدران ... ( عدة محاولات فاشلة ) ..
... تبا لهذا المكان العفن .. ماذا تريدون مني .. ( قالها بصوت مرتفع غاضب )..
.. ( صمت مطبق لا مجيب ... جلس وسط الغرفة )...
.. حسنا .. كما تريدون .. تريدون قتلي .. وليكن إذا .. أنا لا أخاف من الموت ..
.. ولا أخافكم .. أنتم واهمون ..ستبقى كلماتي تعيش بين الناس حتى بعد مماتي ..
.. سأصبح بطلا بنظرهم وأنتم القتلة .. ولن يرحمكم التاريخ .. لن يرحمكم التاريخ أبدا .. أبدا ..
( تفتح في هذه اللحظة نافذة صغيرة أعلى الباب الأبيض الحديدي ليطل منها كوكبة من الرؤوس المتزاحمة وهم يراقبونه بدهشة وتعمق شديدين ... وطبيب من خلفهم يتابع حديثه كمن يلقي درسا تعليميا ) .. هذه الحالة مثلا تشابه الحالة السابقة التي تكلمنا عنها منذ قليل ( يغلقون النافذة ويتابعون مسيرهم في دهاليز المستشفى ويتابع الطبيب سرده ) حيث أن الرجل هنا يعاني من فصام حاد ويتوهم بأنه كاتب وملاحق من قبل السلطات ... وأحيانا يعتقد بأنه جندي شارك في الحرب الأخيرة ... حالته الاجتماعية .. غير متزوج ... وكان يعمل سائقا لشركة نقل ...
( استمروا في مسيرهم وضرباته على باب الغرفة كانت ترافقهم تدريجيا حتى اختفت تماما ..)
تمت ...